الإبادة الجماعية في رواندا- إنكار أميركي لهوية الضحايا؟

على الرغم من الأدلة الدامغة التي لا تدع مجالًا للشك على وقوع جريمة الإبادة الجماعية المروعة ضد التوتسي، والاعتراف الصريح بذلك من قبل المجتمع الدولي بأسره، إلا أن الاعتراف الصادق بهوية الضحايا لا يزال يواجه ترددًا وإحجامًا يثيران القلق العميق.
إن إنكار وقوع هذه الإبادة الجماعية يتخذ أشكالًا شتى ومتنوعة، وغالبًا ما يصدر هذا الإنكار عن أفراد وجماعات ومنظمات ووسائل إعلام مختلفة، ولكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن دولًا عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية تبدو وكأنها ترى أنه من المقبول تبني أحد أشكال الإنكار الخفي. هذا الإنكار يتسلل بخبث ودهاء، ويتجسد في الامتناع المتعمد عن اعتماد التسمية الصحيحة والواقعية لهذه الجريمة الشنيعة، التسمية التي تستند بشكل أساسي إلى هوية الضحايا الذين سقطوا ظلمًا.
عندما قام الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بزيارة رسمية إلى رواندا في شهر مارس من العام 1998، أقرّ بنفسه وبصراحة بأن العالم أجمع "لم يتحرك بالسرعة الكافية" لوقف هذه الإبادة الجماعية المروعة، وأن المجتمع الدولي "لم يسمِّ هذه الجرائم على الفور باسمها الحقيقي والصحيح - إبادة جماعية". وعلى الرغم من أن الرئيس كلينتون قد ترأس الوفد الأميركي الذي شارك في إحياء الذكرى الثلاثين لهذه الإبادة، فإن بلاده لا تزال تتهرب بشكل ملحوظ من اعتماد التسمية الصحيحة لهذه الجريمة البشعة.
ثلاثون عامًا من التلاعب
في تدوينة مؤثرة نشرها وزير الخارجية الأميركي الحالي أنتوني بلينكن في السابع من شهر أبريل الماضي على منصة "أكس" للتواصل الاجتماعي، والتي يُفترض بها أن تكون رسالة تعبر عن التضامن العميق مع رواندا وشعبها، كتب بلينكن قائلًا: "تقف الولايات المتحدة الأميركية بكل قوة إلى جانب شعب رواندا الصامد، الذي يحيي الذكرى الثلاثين المؤلمة لضحايا الإبادة الجماعية. نشعر بحزن عميق وأسى بالغ على الآلاف من التوتسي والهوتو والتوا وغيرهم ممن فقدوا أرواحهم البريئة خلال مئة يوم من العنف الذي يفوق الوصف والتصور". في البداية، اعتقدت للحظة أنه حساب زائف ومزيف، حتى تحققت بنفسي من أن الحساب موثق رسميًا.
يبدو أن الوزير بلينكن يعود بنا ثلاثين عامًا إلى الوراء. ففي العاشر من شهر يونيو عام 1994، كتبت صحيفة نيويورك تايمز الشهيرة أن "المسؤولين الأميركيين طلبوا رسميًا من الصحيفة تجنب وصف عمليات القتل المروعة التي تجري في رواندا بأنها "إبادة جماعية". ونُقل عن السفير الأميركي في رواندا آنذاك، ديفيد روسون، قوله: "لا يمكن للمسؤولين الحكوميين التصريح بشكل قاطع بأن ما يحدث هو إبادة جماعية حقيقية… بل يمكن القول… باحتمالية وقوع إبادة جماعية، ويجب التحقيق فيها بشكل كامل وشامل". كان الأميركيون يتجنبون بشكل واضح ومقصود قبول الحقيقة المرة، على الرغم من معرفتهم الكاملة والتامة بكل ما يجري على أرض الواقع: من هم الجناة الذين يرتكبون هذه الفظائع، ومن هم الضحايا الأبرياء الذين يسقطون ضحية لهذه الجرائم.
إن هذه المراوغة أو التحوط المتعمد من استخدام المصطلح الصحيح والدقيق الذي يشير بوضوح إلى القتل المنهجي والمدبر للتوتسي في رواندا، ليس مجرد مسألة دلالات لغوية أو سياسية بحتة. بل إنها خيانة صارخة للحقيقة، واستسلام مشين لصالح إنكار وقوع هذه الجريمة المروعة، وتأييد ضمني ومبطن للجناة الذين ارتكبوا هذه الفظائع. وسواء كان هذا التهرب متعمدًا ومقصودًا أم ناتجًا عن جهل وإهمال، فإن عواقبه وخيمة وبعيدة المدى، وستظل تلاحقنا طويلًا.
إن مصطلح "الإبادة الجماعية" يحمل وزنًا قانونيًا وأخلاقيًا محددًا وواضحًا، ويشير تحديدًا إلى التدمير المتعمد والمنهجي لمجموعة عرقية أو إثنية أو دينية أو قومية معينة. والإبادة الجماعية التي ارتُكبت ضد التوتسي في رواندا، تفي بشكل كامل بجميع المعايير الموضحة والمفصلة في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. لقد كانت حملة مدروسة ومخطط لها بعناية فائقة، تهدف إلى إبادة مجموعة عرقية بأكملها على أساس الهوية الإثنية فقط.
في تصريحاتها القوية والمؤثرة أمام مجلس السلام والأمن في الاتحاد الأفريقي، أكدت المستشارة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية، ويريمو نديريتو، على مسألة بالغة الأهمية يجب على بلينكن أن يتذكرها دائمًا وأبدًا، حيث قالت: "إن الإبادة الجماعية يتم التخطيط لها بدقة وعناية، إنها ليست أمرًا غير متوقع أو مفاجئ، وليست عفوية أو عشوائية؛ بل هي فعل مقصود ومبيت. كانت هناك خطة واضحة ومفصلة ونية مبيتة وراسخة، للتدمير الكلي أو الجزئي لشعب التوتسي". هذا التصريح الصريح والواضح من المسؤولة الأفريقية يتسق تمامًا مع ما أكدته دائرة الاستئناف بالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في شهر يونيو من العام 2006.
عبثية الإنكار
إن رفض تسمية الجريمة المروعة التي شهدتها رواندا بأنها إبادة جماعية ضد التوتسي، هو موقف مهين ومخزٍ يقوض الحقيقة التاريخية الثابتة ويقلل بشكل كبير من ذكرى الضحايا الأبرياء الذين سقطوا ضحية لهذه الفظائع. فقط تخيلوا، للحظة واحدة، إذا طبقنا نفس هذا المنطق المعوج على جرائم الإبادة الجماعية الأخرى التي شهدها التاريخ البشري عبر العصور. هل يمكن مثلًا أن نتردد في تسمية الهولوكوست بماهيتها الحقيقية، لمجرد أن النازيين قد استهدفوا مجموعات أخرى أيضًا؟ إن عبثية هذه الفكرة تؤكد بشكل قاطع خطورة القضية المطروحة أمامنا.
قد يدعي البعض؛ أن هذا المصطلح مسيّس للغاية أو مثير للانقسام والخلاف، بينما يقترح آخرون استخدام مصطلحات بديلة أكثر تلطيفًا مثل: "الحرب الأهلية" أو "الصراع العرقي" لوصف هذه الأحداث المأساوية، وذلك في محاولة يائسة لتجنب الجدل والنقاش. هذه العبارات الملطفة تبقى قاصرة وضيقة الأفق، بل إنها تفشل تمامًا في وصف طبيعة الفظائع التي ارتُكبت، وتقلل بشكل كبير من جسامة الجرائم المرتكبة بحق الأبرياء.
أحد الأسباب الرئيسية للتعامل مع الإبادة الجماعية ضد التوتسي في كثير من الأحيان بشكل مختلف تمامًا عن عمليات الإبادة الجماعية الأخرى التي شهدها العالم، هو التصور الخاطئ والشائع بأنها كانت مجرد صراع "قبلي"، واندلاعًا عفويًا وغير مخطط له للعنف. هذه الرواية ليست خاطئة ومضللة فحسب، بل إنها خطيرة أيضًا، لأنها تعفي الجناة من مسؤوليتهم الكاملة عن هذه الجرائم، وتتجاهل بشكل صارخ دور الاستعمار والتلاعب السياسي الذي أوصل البلاد إلى هذه الإبادة الجماعية المروعة.
في الثالث من شهر مايو عام 1994، استضافت قناة N-TV الإخبارية الألمانية وزير خارجية الحكومة الرواندية التي ارتكبت هذه الإبادة الجماعية، جيروم بيكامومباكا، الذي دافع بكل قوة عن الجيش آنذاك فقال: "إن الجيش لا يقتل المدنيين الأبرياء، وإن من يقتل الأبرياء هي جبهة رواندا الوطنية"، وردًا على سؤال مباشر حول من يرتكب عملية القتل، كان رد بيكامومباكا: "إنه اقتتال مرير بين مجموعات عرقية بدأت بقتل بعضها بعضًا، وتدخل الجيش النبيل لمنع جرائم القتل المروعة… لو توقف القتل بالفعل"، وأضاف بوقاحة: "قبل إجراء التحقيقات اللازمة، من الصعب جدًا تحديد هوية المرتكبين الحقيقيين، ولكن بشكل عام، فإن التوتسي والهوتو قد نفذوا عمليات قتل بالقدر نفسه". وهذا فقط أحد الأمثلة العديدة التي يبني عليها بلينكن سرده المخزي للأحداث.
الخلاصة
إن تجنب استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" أو التهرب منه بشكل مخزٍ عند الإشارة إلى الفظائع المروعة التي ارتُكبت ضد التوتسي في رواندا ليس مجرد نقاش أكاديمي أو لغوي. بل هو واجب أخلاقي وإنساني، واختبار حقيقي لالتزامنا الصادق بالحقيقة والعدالة والكرامة الإنسانية، وعواقب هذا التهرب عميقة وبعيدة المدى، وستظل تطاردنا طويلًا.
